مجتمع

ثلاثة أرباع النصر: جمال حمدان عن أكتوبر 73

من عبور القناة إلى ثغرة الدفرسوار، يرسم جمال حمدان خريطة الصراع بين النصر والخيبة… كيف تحول النصر العسكري إلى معركة سرد، ومن الذي كتب الحكاية الأخيرة؟

future غلاف كتاب «6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية» للدكتور جمال حمدان وفي الخلفية الدبابات الإسرائيلية التي عبرت إلى الحدود الغربية لقناة السويس ووصلت إلى مسافة 101 كيلومتر من القاهرة فيما عرف بثغرة الدفرسوار (من أرشيف صور جيش الدفاع الإسرائيلي)

عرضنا في مقال سابق لأهم فصول جمال حمدان في كتابه «6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية»، وفي العرض الحالي نتابع فصول المعركة التي غيرت من خريطة الشرق الأوسط والعالم. ونتناول هنا سبعة قضايا تبين التحليل الجغرافي والسياسي والعسكري.

من الحرب الجالسة إلى الحرب الخاطفة

شنت القوات المصرية في سيناء هجماتها قاصدة مطارات المليز وتمادة والجفجافة شرق الحائط الجبلي، ثم القاعدة الجوية في العريش في أقصى شمال شبه الجزيرة ومطار رأس نصراني في أقصى جنوبها. هذا فضلا عن مراكز الرادار والتشويش في أم خشيب وأم مرجم والطاسة.

وقد ارتفعت الضربة الجوية فوق مواقعها المستهدفة في لحظة واحدة موحدة، وذلك حرمانًا للعدو من فرصة الإنذار وتحقيقًا لعنصر المفاجأة الكاملة وبهذا أخرج طيران العدو من المعركة مؤقتًا لساعات ثمينة.

وبعد أن عاش الجيش المصري 6 سنوات فيما يشبه حرب الخنادق القديمة التي عرفتها الحرب العالمية الأولى في أوربا، ثم الحرب الجالسة Sitzkrieg التي عرفتها الحرب العالمية الثانية وفيها يتراشق الطرفان من مواقع ثابتة إلا من عنصر الطيران المتحرك جاءت أكتوبر لتسجل قطعة من الحرب الخاطفة Blitzkrieg، ردًا عادلًا ومشروعًا على ضربة العدو الغادرة التي قام بها صباح 5 يونيو 1967.

وفي ذات اللحظة التي انقضت فيها الطائرات المصرية على أهدافها في أعماق العدو انطلقت المدفعية الثقيلة بعيدة المدى (2000 مدفع) بتدمير وإسكات مدافع ورشاشات العدو التي تطل من فتحات ومزاغل خط بارليف، مما أدى إلى ترك ساحة الشاطئ الشرقي مفتوحة للقوات المصرية العابرة للقناة وخط بارليف.

ثم بدأت موجات التحرك للأرضي والتي كان قوامها سلاح المهندسين والمشاة. فانزلق إلى الماء عشرة آلاف قارب من زوارق المطاط وعدد من المركبات البرمائية إلى الجنوب من البحيرات المرة وشمال بحيرة التمساح. وتحمل عدة آلاف من المهندسين لمد الكباري والمعابر ولفتح ثغرات المرور في السد الترابي ولإبطال مفعول أنابيب النابالم، فضلًا عن بعض المشاة والصاعقة الكوماندوز لتأمين رؤوس تلك الجسور والتعامل المباشر مع طلائع العدو وصد وتصيد دباباته.

إلى بارليف.. على جسر من الدماء

يستدعي حمدان المعلومات العسكرية التي كانت تحذر من أنه لن يعبر المصريون القناة إلا على جسر من الدماء، فالقوانين العسكرية السائدة والمقررة تقدر لعبور الموانع المائية الخطيرة نسبة باهظة بل ومخيفة من الخسائر تصل في أدناها إلى 20% وترتفع في بعض التقديرات إلى 70% من قوة الهجوم، وذهبت تقديرات أخرى إلى احتمالية وقوع 30 ألف قتيل في الحد الأدنى ونحو 100 ألف قتيل عند تقديرات أخرى، كما ذهب البعض إلى أن العبور في مجمله سيكون عملية انتحارية.

وينقل حمدان من مصادر عسكرية مصرية أنه منذ انتهت حرب الاستنزاف، بدأ العدو في إنشاء خط محصن جديد تمامًا يشرف على القناة، يحمى عمقه وراءها، ويكون رادعًا مروعًا لأي محاولة مصرية للعبور، ولا يقارن البتة بالخط البسيط السابق الذي تحطم. ولهذا فإن خط بارليف المعروف والذي اقتحمته قواتنا في أكتوبر إنما هو في الواقع خط بارليف الثاني، واستفادة من تجربة خط بارليف الأول. كانت الفكرة الأساسية في الخط الثاني ألا يكون سطحيًا بل غائرًا تحت الأرض حتى لا تنال منه المدفعية المصرية الثقيلة كما فعلت بالخط الأول ودمرته.

يجد حمدان جذورًا تاريخية لخط بارليف باعتباره منتميًا إلى سلالة وفكرة الخطوط الثابتة التي تبدأ من أمثال سور الصين العظيم وخطوط التخوم الرومانية الشهيرة Roman Lines وتنتهي بأمثال خط ماجينو الفرنسي زمن الحرب العالمية الثانية. والخط في فلسفته يعبر عن عقلية العدو التي تخشى أن، أو تفضل ألا، تحارب إلا من وراء حصون مشيدة.

وقفة التعبئة!

مع نهاية الأسبوع الأول، حدث هدوء نسبي في حدة القتال أو انخفاض ما في سرعة إيقاع التقدم واستدعى ذلك النقد من البعض. وينفي حمدان أن يكون الموقف ناجم عن الجمود أو السكون والركود أو الاسترخاء العسكري، ويقول حمدان إنه مثله مثل غيره شعر بعد نصر الأسبوع السابق الساحق أن ثمة فرصة كبرى يجب ألا نضيعها وأن علينا بأسرع ما يمكن أن نستثمر انتصارنا وهزيمة العدو وانهياره البادي لنجهز عليه بضربة أقوى داحرة ونهائية.

وقد جاءت هذه الوقفة في وقت كان أمام كلا الطرفيين خيارات صعبة:

  • كان أمام القوات المصرية المتقدمة إما الاندفاع نحو الممرات للسيطرة عليها، وإما التركيز على تأمين قاعدتها الأرضية وتدعيمها.
  • وكان أمام العدو الإسرائيلي إما الانسحاب إلى المضايق والتحصن بها وإما الصمود والصدام مع القوات المصرية.

 وقد كان الانسحاب كفيلًا بأن يستدرج القوات المصرية خارج نطاق شبكة صواريخها الحامية ويفرض عليها الانتشار الواسع المتعجل ويطيل خطوط مواصلاتها، وبذلك كله يعرضها لخطر الاستنزاف.

ولقد كان هناك بالفعل إغراء شديد للقيادة المصرية بأن تندفع بأقصى سرعة في زحفها نحو الشرق وبوجه خاص نحو المضايق - مفاتيح سيناء الاستراتيجية الحاكمة - والتي أصبحت طلائع قواتنا المتقدمة على بعد عنها يتراوح بين 50-150 كم منها في بعض القطاعات.

والمضايق الأرضية هي كما نعرف قطب الجاذبية في أي صراع مسلح يدور على أرض شبه الجزيرة والرهان الحقيقي على النصر، بل وهي الجائزة الكبرى.

قاومت القيادة المصرية بشدة كل إغراءات الزحف السريع الكاسح وفضلت خطة تعميق وجودها في القاعدة الأرضية المحررة وليس تطوير الهجوم شرقًا، أي فضلت التوسع الرأسي على التوسع الأفقي.

يناقض حمدان معلوماته، إما لأنه لا يدرك حقيقة المشكلة وقت كتابة هذا الموضوع بُعيدَ الحرب، أو لأنه يدرك (وهذا هوة الأرجح) ولكنه لا يريد أن يكتب نقدًا في كتاب عن النصر.

على هذا النحو يكمل حمدان قصة وقفة التعبئة وفقًا للروية الرسمية على النحو التالي:

«وكما أعلن فيما بعد، خرجت القوات المصرية عن خطة الوقفة مؤقتًا حين اتضح أن خطة العدو هي تثبيتها، ومنعها من التقدم ليتفرغ لسوريا، حتى إذا ما فرغ منها عاد بكل ثقله إلينا. ولهذا، وتخفيفًا لضغط العدو على سوريا في الجبهة الشمالية، اضطرت قواتنا في يوم ١٤ أكتوبر إلى تطوير هجومها وإلى شن هجوم واسع النطاق في مرحلة سابقة لأوانها امتدت بمدرعاتنا خارج نطاق صواريخنا المضادة للطائرات، وما إن حققت هذه الخطوة أغراضها في إرغام العدو على سحب كثير من قواته وطائراته من الجبهة السورية، حتى عادت قواتنا إلى قاعدتها الأرضية ورؤوس جسورها حرمانًا للعدو من أي فرصة لتصيدها بطيرانه، واستدراجًا لهجماته المضادة إلى مقتل محقق في نطاق شبكة صواريخنا».

الثغرة: عملية شارون

ينقل حمدان عن المراجع العسكرية التي نشرت في تلك الفترة أن الخلل في سير المعركة جاء بعد المنعطف الخطير بالتدخل الأمريكي المباشر. فقد بدأت الإمدادات الأمريكية تتدفق على العدو بمعدل صارخ وبغير حساب فوق جسر جوي وآخر بحرى حشدت له أمريكا أحدث ما في ترسانتها من أسلحة متطورة جمعت من القواعد الأمريكية في أوروبا.  وكان جزء كبير من هذه الإمدادات يصل إلى ميدان القتال في سيناء نفسها رأسًا، في العريش في البداية ثم إلى الدفرسوار بطواقم أمريكية كاملة، والمفهوم أن هذه الأسلحة حدث من فاعلية صواريخنا التي كانت متفوقة ضد الدبابات والطائرات.

عرفت هذه العملية باسم «عملية شارون» وبدأت في ليل 15-16 أكتوبر، أي في اليوم العاشر من المعركة، وامتدت على مدى أسبوع، الأسبوع الأخير، حتى وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر، ولكنها ظلت مستمرة بعده بضعة أيام أخرى في تلاعب بالقانون الدولي. وهي بهذا قد استغرقت في جملتها نحو 10 أيام.

وهدف الثغرة أن إسرائيل - تحت ضغط المعركة وتدهور موقفها - حاولت أن تفتح جبهة جديدة لا تخفف ذلك الضغط فقط وإنما كذلك تنقله إلى مؤخرة القوات المصرية وربما كذلك بأمل أن تقلب معادلة القوة في الميدان وموازين المعركة ويرغم مصر على أن تسحب جزءًا من قواتها في سيناء إلى غرب القناة، بحيث تكون الثغرة مسدسًا مصوبًا نحو القاهرة، وحبلًا حول رقبة الجيش الثالث.

يعترف حمدان أن ذلك قد كفل لإسرائيل نصرًا دعائيًا ونفسيًا وسياسيًا مدويًا، مهما يكن كاذبًا أو وهميًا، رفع روحها المعنوية المنهارة في الداخل، وغطى على سمعتها العالمية التي تحطمت، ومن الناحية الأخرى طغى على الانتصار المصري الحقيقي وشوهه في نظر العالم إلى جانب تأثيره العكسي وانعكاساته الضارة على معنويات مصر والعرب.

ويصف حمدان طريقة الثغرة بأنها «سلاح إسرائيل المفضل»: استراتيجية الاقتراب غير المباشر indirect approach القائم على الاختراق ثم التطويق فالتصفية، والتي مارستها بنجاح في حرب السويس (1956) وحرب يونيو (1967) من قبل والتي تكفل مجالًا واسعًا لعنصر المفاجأة وتكتيك المناورة واسعة المدى التي تلائم بدورها سلاح الدبابات والمدرعات.

ويرجع حمدان إلى المصادر العسكرية المصرية التي أخذ منها فيبين أن هذه العملية تمت بتواطؤ ومساعدة طائرات التجسس الأمريكية التي قامت في تلك الفترة بعدة طلعات متلصصة على الأجواء المصرية العليا حيث رصدت ثغرة مخلخلة الكثافة الدفاعية نسبيًا في منطقة الانتقال أو جبهة الانفصال بين الجيشين المصريين الثاني والثالث شرق القناة في قطاعي الجبهة الشمالي والجنوبي على الترتيب.

ويجد حمدان الأعذار لذلك فيقول: «ومن المقرر والمسلم به عسكريًا أن وجود ثغرات في جبهة الحرب الصحراوية التي يتم التقدم فيها كقاعدة على محاور رئيسية، ليس خطأ من حيث المبدأ، ولكن الخطأ أن تترك للعدو فرصة استغلاله، خاصة في مناطق الانتقال بين الجيوش المتجاورة».

لماذا الدفرسوار؟

وقد عمدت إسرائيل منذ فوجئت بالعبور المصري وتدمير خط بارليف إلى أن تهاجم في القطاع الأوسط بضراوة بالطيران والمدرعات من أجل العبور المضاد فجربت في أكثر من موقع طبوغرافي:

  • عند كبريت على العنق المختنق بين البحيرات المرة الكبرى والصغرى ولكنها لاقت مقاومة عنيفة
  • كما حاولت أن تتسلل عبر منطقة الفردان، أي في ذلك القطاع من القناة الواقع بين بحيرة التمساح جنوبًا ومضيق القنطرة شمالًا. والمرجح أن هدفها من ثغرة في الفردان كان أن تنفذ منها إلى احتلال الإسماعيلية والقنطرة غرب ثم حصار بورسعيد بعد ذلك. غير أنها فشلت وردت على أعقابها.
  • ومن ثم عاودت التسلل من نقطة أخرى إلى الجنوب أكثر هي منطقة الدفرسوار، التي تقع على الزاوية الشمالية الغربية للبحيرات المرة الكبرى.

والإسماعيلية إذًا هي المدخل الطبيعي للهجوم على القناة من الشرق. وثاني أفضل بديل لها هو منطقة الفردان لأنها تتوسط قطاع جزيرة البلاَّح ما بين الإسماعيلية نفسها جنوبًا والقنطرة شمالًا. وحين عجزت القوات الإسرائيلية المتسللة عن المروق عبر منطقة الفردان، وجدت الثغرة البديلة في الدفرسوار جنوبًا على رأس البحيرات المرة الكبرى. وهنا نلاحظ أن العدو قد عبر القناة إلى الغرب من أوسع قطاعاتها، على عكس ما فعلنا نحن حين عبرناها إلى الشرق في أضيق قطاعاتها.

أعطى حمدان تفصيلًا لأهمية الدفرسوار بتبيان مزاياها:

  • فهي مفترق طرق برية شمالًا إلى بورسعيد وجنوبًا إلى السويس وغربًا إلى وادي النيل.
  • وموقعها على رأس البحيرة يعطي عدة ميزات للمهاجم. فالبحيرة عكس القناة تمثل منطقة ضعف في الاستحكامات الدفاعية إن لم تكن أضعف نقطة فيها، لأن الدفاعات خلف البحيرات عمومًا وكقاعدة تكون عادة أضعف منها خلف الأنهار أو القنوات (لاتساعها واستبعاد احتمالات اختيارها للعبور).

 ولعل هذا كان هو السبب الذي قامت عليه خط تقسيم الجبهة بين جيشينا الثاني والثالث شرق القناة على منطقة البحيرات المرة بالذات. كذلك كانت التحصينات الدفاعية على جوانبها المقابلة غربًا أقل كثافة وقوة منها على بقية جبهة القناة (اتكاء على أنها خط دفاع طبيعي لا يصلح لعبور قوات كبيرة ولا يرجح الإقدام على الهجو).

  • كما أن المنطقة لكثرة ما بها من حدائق وبساتين كثة بأشجار الفواكه وأراض رطبة من قصب البوص، ثم مخازن ومبانٍ وحظائر مطارات مهجورة أو قديمة، فضلًا عن الحشائش البرية العالية شبه السافانا، يمكن أن تقدم أرضًا صالحة للاختفاء والتمويه لا سيَّما للدبابات، أضف إلى ذلك انتشار القرى والعزب وأشجار مصدات الرياح.

مظاهرة تلفزيونية؟

في حديثه عن الثغرة كنا ننتظر من حمدان أن يقول «وتلك هي مفاجأة كاملة من العدو الإسرائيلي ردًا على مفاجأة العبور»... لكن حمدان لم يقل.

يعيد حمدان ضبط مصطلحاته سريعًا فيقول بأسى «لقد تحول التسلل إلى ثغرة، والثغرة إلى اختراق». 

ثم يمضي حمدان ساردًا ما قام به العدو بهذا الاختراق من عمليات إرهاب وخطف وحملة تخريب ونهب إجرامية واسعة النطاق في المناطق المأهولة من القطاع، ثم قطع المياه عن المدينة، حيث قام بردم ترعة السويس العذبة في قطاع منها يبلغ طوله عدة كيلومترات وبالمثل ردم قطاعًا من ترعة الإسماعيلية، وبهذا انقطع إمداد المدينة بالمياه، فضلًا عن انقطاع إمدادات التموين والغذاء. ومن هذا الحصار والضرب كان العدو يأمل أن تسقط المدينة أو تسلم في النهاية جوعًا وعطشًا، ولكن السويس الباسلة أبت التسليم، فكانت خير ظهير للجيش الثالث شرقًا وغربًا وأروع مثل للدفاع الشعبي.

ومن أسف أن حمدان لم يعط الثغرة/الاختراق تحليلًا متوازنًا، وراح يقلل من أهميتها حتى لا ينتقص من عظمة نصر أكتوبر، ونقل عن كتاب لعسكريين مصريين (نقلوا بدورهم عن الصحافة الفرنسية) أن عملية الثغرة لم تكن إلا «مظاهرة تليفزيونية».

وبغض النظر عن عدم بلاغة الترجمة عن الفرنسية لأن المقصود هو «استعراض تلفزيوني» فإن الثغرة (التي أدرك حمدان أنها اختراق) لم تكن مجرد استعراض تظاهري أمام شاشات التلفزيون الإسرائيلي بل كانت تغييرًا جوهريًا في مسيرة الحرب.

لمن النصر؟

في الفصل الخامس يسأل جمال حمدان: «النصر لمن؟» ثم يستدرك على سؤاله قائلًا: «يبدو هذا السؤال غريبًا مثلما هو مؤسف عربيًا، ويبدو متطفلًا وطفيليًا غير مشروع أكثر مما فيه من فضول مشروع ولكن لا حيلة لنا فيه، ولا مفر لكاتب من التعرض له بعد أن حاولت الدعاية الإسرائيلية المحترفة أن تطمس معالم الحقيقة وأن تقلب حقيقة الموقف».

ولا يغيب عن حمدان أن يسرد آراء الناقدين من الوطن أو من الأعداء القائلين بأن معركة أكتوبر ليست «حرب تحرير بقدر ما هي حرب تحريك»، بل وقول البعض بخطأ الحرب كلها، قرار البدء بها ثم توقفها (أو إيقافها) وأخيرًا قبول المحادثات السياسية.

وينقل حمدان الرأي القائل بأن العدو بعد أن خسر المعركة العسكرية أدار معركة دعائية في هستيريا محمومة ليسرق انتصارنا ويزيف قولًا بأن إسرائيل سجلت نصرًا عسكريًا أكبر وأعظم من انتصارها الساحق في 1967، وأن العرب بالمقابل تلقوا هزيمة عسكرية أكبر وأفدح من هزيمتهم، وأنه لولا التدخل الدولي لوقف إطلاق النار لدمرت إسرائيل الجيوش العربية وحققت انتصارًا أكبر مما حققته بالفعل. وزعمت إسرائيل أن العالم – مدفوعًا بنزعة معاداة السامية - لم يكن يريد لإسرائيل أن تنتصر.

وختام الحرب النفسية أنه إذا كانت مصر قد عبرت القناة إلى سيناء فقد عبرت إسرائيل القناة إلى الضفة الغربية، لتحارب في أفريقيا وأن إسرائيل سجلت مكاسب إقليمية في كل من سوريا ومصر، حتى أنها وسَّعت منطقة احتلاله السابق بنحو 10 كم لتمتد من «سعسع في الجولان إلى الأدبية في خليج السويس» بعد أن كانت تمتد فحسب من القنطرة (في القناة) إلى القنيطرة (في الجولان). أي أن العدو لا يرى من أكتوبر سوى يوم 16 (الثغرة) متجاهلًا يوم 6 (العبور).

والهدف من ذلك تكريس هذه الحرب النفسية التي تقول من خلالها إسرائيل:

«ما دام العرب قد هزموا مرة ثانية، بل رابعة بعد كل ما حدث، فما هو الأمل، وما جدوى قياداتهم وأنظمتهم التي توفر لهم الهزيمة بانتظام، والنتيجة إحداث بلبلة وتساؤلات ثم انفجار عربي من الداخل يمزق الوحدة الوطنية والقومية ويقدم العرب فريسة سائغة للعدو وأطماعه التوسعية والاستعمارية التقليدية».

وفي التحليلات الأمريكية -  حليفة إسرائيل – فإن الجولة انتهت بالتعادل بين الطرفين، وقالت بعض الدوائر الغربية إن العرب على الجملة قد حققوا نصرًا محدودًا، قدروه بصيغة أسهم الشركات: بنسبة 51% للعرب و49% لإسرائيل.

يرفض حمدان أكاذيب العدو أو «غفلة البعض منا» ويحاول أن يقترب من الحقيقة ويرى أننا انتصرنا بنسبة كبيرة وليس نصرًا كاملًا، وبطريقة النسب المئوية يرى حمدان أننا انتصرنا بنسبة 75% مقابل 25% للعدو.

ويرى حمدان أن هذا النصر وإن لم يكن كاملًا فسيكون مقدمة لنصر آخر في المستقبل، فبعد أقل من ثلاثة أشهر من معركة أكتوبر، وفي ظل اتفاقات الأمم المتحدة للفصل بين القوات، قبل العدو بالانسحاب التام لا من الضفة الغربية برمتها وحدها، ولكن أيضًا من نطاق كبير يوازي قناة السويس بطول امتدادها ويبعد عنها نحو الشرق بنحو 30 كم أي قرب مشارف ممري متلا والجدي.

ويقنع حمدان بالنتيجة ويقول: «وبذلك أصبحت مصر مسيطرة على جانبي القناة تمامًا، واتسع نطاقها المحرر في سيناء، وتحول الميزان الاستراتيجي لصالحها، وأصبحت في الوضع الاستراتيجي الأفضل، ومنه يمكنها التقدم فورًا إلى معركة فاصلة إذا لزم الأمر مستقبلًا».

لا يضم كتاب حمدان ما جرى بعد ذلك من تداعيات الاتفاقات بين مصر وإسرائيل، ولا يشمل بالطبع نهاية السبعينيات واتفاقية كامب ديفيد، وهو الموقف الذي سيغير وجهة نظر حمدان في الإدارة السياسية لمعركة أكتوبر، وسيظهر ذلك في بعض صفحاته في كتاب «شخصية مصر».  وهو ما قد نعود إليه في مقالات في المستقبل.

اقرأ أيضًا: جمال حمدان يكتب: العرب والسادس من أكتوبر

# حرب أكتوبر # حرب السادس من أكتوبر # تاريخ # مصر # إسرائيل # 6 أكتوبر

مات كما مات أبناء أبي الصمت — قصة قصيرة
من الحرب النفسية إلى الخداع الاستراتيجي: جمال حمدان عن أكتوبر 73
من «افتراق الطرق» إلى «سلام السلاح»!

مجتمع